حسن حافظ
في الباخرة المُبحرة نحو شواطئ مضيق البسفور ،في رحلة سياحية ،كنت قد اصطحبت معي مجموعة من الكتب ،يأتي في مقدمتها ديوان الشاعرة آمنة محمود الجديد (كتاب الحب ) حيث كانت قصائدها هي رفيقتي في تلك الرحلة الممتعة ،إذ لابد لمن يقوم بعملية تحليل النصوص الشعرية ان يلجأ الى التفسير التأملي لتلك النصوص ومعها المعاني التأويلية والمجازية ،عن طريق التوجه الداخلي للنص في محاولة لاستبطان ماهو خارجي وماهو داخلي ،للبنية النصيّة والاسلوبية ،بعيدا عن الاسقاطات والاقحامات التي يتوجه اليها المحلل ॥! وهكذا تأتي قصائد الشاعرة آمنة محمود، وكأنها أشبه بملكات للجمال وهي تستعرض امام المشاهدين فكلها تقول (انا الاجمل ) فالشاعرة ترسم لنا لوحاتها الفنية بألوانها الزاهية ،فتأتي وهي مليئة بالعذوبة والايقاع المتناغم ،اضافة الى الصور الشعرية المليئة بالكثافة والترميز ،فالشاعرة غارقة حتى حمأة اذنيها بالعاطفة المشبوبة ،بما يطلق عليه باللغة الانكليزية Sentimental نحو الحبيب ،الذي ربما كان الزوج او المثال او الحبيب المجهول ! الذي يجيء اليها وقد اختصر الدنيا ،فيتساقط امامه الآخرون ! وهذا المثال الانموذج من العشق تتلاحم معه ،وتندمج في ذاته ،بما يشبه نظرية (الحلول الصوفية ) إذ تقول ( لم َانت أناي / ولم َ॥/ يمنعون عني الأنا / فمن أنا ؟ / ان لم أكنْ أنت َ)او أن ْتخاطبه (اين انت الآن ؟ يامن كنتَ أنا !) او لدى قولها (احبك بشوق ،لانك انا / اشتاق اليّ من خلالك / واشتاق اليكَ من خلالي / لانني انت َ) او ان تقول (اين انت الآن ؟/ بل أينني ؟) وهكذا يتجسد الحبيب في خيالها الجامح نحو العشق والجمال ،والذي تطلق عليه (توأم المحال !) واغلب هذه القصائد موجّهة بطريقة المخاطب (أنتَ ) وهي على طول المدى ، ومع هذا البوح في الشوق واللوعة ،نراها حين تسترجع ذكرياتها معه ،القريبة والبعيدة ،الافراح والاحزان ، لا تترك شاردة او واردة الا وذكرتها ،فهي تحاول ان تربط كل حدث بذكرى معينة ،بما يطلق عليه بعلم النفس بنظرية (الاقتران الشرطي ) ففي قصيدة لها تقول فيها (في الامس البعيد قليلا /كفِنّي بالقمر / حين تهاجمني ابتسامات الصور / وترّفق بما اخفق تحت وسادتي / من إشبينات وغجر ) وهي بعد ذلك رومانسية حالمة تطفح فيها روحها بالشوق الى الطبيعة والسماء والطيور ، ومعها كل هذه الجنان التي تتفتح بمجرد حضوره ، الا انها متذبذبة الاشواق نحو الحبيب ،بسبب من تردده وخذلانه لها ( منذ متى وانت هنا ؟/ منحتنا عشقا أكذبيّا / وخلفت وراءك خذلانا ॥!)ولعل هذا المخاطب كان قد صمّ اذنيه لسماع كلماتها (هذا الوهم المحال لربما قتلها اقراش ظنونك ) لتنهي بعد ذلك كلماتها المتساقطة بكل ودّ ( احبك والبادئ اكرم ॥!) واذا كانت بعض الآراء تذهب الى ان الموت هو انتقال من ضفة الى ضفة اخرى، او من حياة الى حياة اخرى ، فالشاعرة تسقطه على الحبيب بشكل آخر ، الا وهو (موت الاحياء ) بقولها (أن أفترض الموت لايعني بالضرورة / ان اسكن قبرا / او كما تتوهم انت بالانتحار / بل هو انْ اميتَ نفسي في حياتك / مادمت لا استطيع اخراجها منك ؟) ذلك ان الموت عندها اصدق من الحياة ، فهو يمتلك نهاية واحدة ، وهو اهون عندها من الفراق ( الفراق ان ابقى في كهف الذكريات / وحدي / وتسد فوهته انت بصخرة عظيمة / بينما تمطرني صورا / آلهة التذكر )واذا كان هذا الحبيب يمتلك تلك القسوة التي لاتدع قلبه يرّق لكلماتها ، فهو جليدي الاحساس والمشاعر (بلورة الثلج عندك لاتذوب / وشمسك كساعة حائط / توقفت هي الاخرى عند الغروب/ سكتَ حتى اكل الصمت صوتك / كل الارجاء احداقك تجوب ) وهذه القصائد وبهذا الخضم العاطفي ربما يمكن ان
تأتي كمسلسل لقصة هذا الحب البوهمي ! ولعل اجمل مافي شعرها الغنائي هذا قولها (ما ناديتكَ كي استغيث / هو اسمك يتكاثر في فمي / فيخرج للصور مرارا / دون عناء )وفي اشارة منها الى هذا المثال ،المرتبك الخطو احيانا ، المزدوج احيانا اخرى ( حاول ان تفهمني الحقيقة / لماذا كلما اخبرتني أمراً / يقف خلفك انسان آخر / كأنه انت - لكنه / يقول عكس ماتقول ) وتسهب الشاعرة كثيرا في وصف سمات هذا الحبيب ، لكنها لاتعطينا موقفا مضادا ؟ لاننا لم نسمع صوته فهو غائب عنا ، وهي فقط التي تحدثنا عنه ( احاول : ان اتجنب قليلا / وجهك الرائع ..وصوتك الكليم / وروحك البديعة / لان لك عينين تختصران ِالبحر / وقلبا يسعُ الدنيا وكفيّ وطن ) الا اننا نجدها تنتفض احيانا ، حينما تمسّها الخيبة من هذا الحبيب الذي لايطاوعها (جرحك -حرّرني ) بعد ان اتعبها الجري خلفه لذا نجدها وفي لحظة يأس تتطلع الى الوصول الى الخاتمة عن طريق الموت ، لكنها تصوّره لنا بشكل بلاغي ، اشبه بمن يصل فائزا في نهاية السباق ليقطع شريط الوصول ( هلكت فدعني / لأكمّل َموتي / وانهي سريعا طريق عدوي / واقطع فوزا / شريط الوصول )بعد ان وصلت معه الى طريق اللاعودة ،فلم يعد بامكانها اصلاح ما انكسر (لا اقول اختلفنا او افترقنا / او كما تسميها - انتهينا - بل انشطرنا دونما نهاية / ولن نلتئم حتى لو عادت بنا الايام / ليوتبيا البدء. ...!) والشاعرة بعد ذلك نرجسية حدّ الذهول ، وهي لاتشير الى ذلك تلميحاً ، بل تصريحا ً، لدرجة انها تمجّد اسمها في احد المقاطع ( في كل لحظة والى ما شاء المطلق روحي تذقْ : آ م ن ة ) كما تقول ( ولانني انويّة واعشق بجنون نفسي / فلن أرضَ لها الجلوس بمقعد القلق ) أما في قصيدة (باءات الحب ) فهي تبتكر مفهوما جديدا للقصيدة التي تقطعها الى مقاطع ،يبدأ كل منها بكلمة (احبك ) وتليها بكلمة اخرى تبدأ بحرف الباء ( احبك بوله / احبك بدمعة / احبك بهم / بحب / بحياة / بحنان ...) وهذا الحب العجائبي يتخذ اشكالا متعددة يدفع بالشاعرة الى اتخاذ موقف صلد ، لكن هذه الصلادة سرعان ماتتهشم ،ذلك انها تترفق به وتخشى عليه ( أنت َ لن تهمشني او تتركني مُحطّمة / بل انت ستدّمر ذاتك / وهذا مايؤرقني )او قولها (حين يواجهني غضبك / اقف بثبات ٍامامك / واخشى كثيرا كثيرا عليك / منك ) ومع ذلك فهي ترسم لنا لوحة اخرى من الوانها المنتقاة ،فهي تشير الى انها مازالت صلدة على الرغم من الاشياء كلها ،إذ تذكر كلمة (احدهم ) لتعبر عنه ( احدهم يقف خلف الزجاج ويهددني بإصرار بحجر / فيؤلمني المشهد / ويؤسفني انه لايعلم / ان هذا الزجاج ضد الحصى / وضد الرصاص !) كما اننا نجد ان هذا الحب يتغلغل فيها ويستغرق كل ساعاتها ، الى درجة مازالت هناك بؤرا في داخلها للنقمة عليه ( أكره هذا الحب الذي يجبرني على ايصال تقارير ساعاتية / تنص على اني / مازلت حيّة...!) ولا تكاد تخرج آمنة من هذه النرجسية العالية ،الا في بضع قصائد ، اشير في مقدمتها الى قصيدة (وطن الموت والعذوبة ) حين تتحدث عن النهر الذي ابتلع الالاف الذين سقطوا من على جسرالأئمة ( يامَنْ سعيتم الى الخلاص ووجدتموه / انتم الآن تشبهون الاحياء / اكثر من ذي موت ) وفي موضع اخر تندب بلدها ( عراقاه ...وان سميتنا نذور بقائك / فحسناً فعلت / هذا اذا كنت / الذي اخترق ...!) والشاعرة آمنة لها انتقالات من البوح المباشر، الى رسم القصائد السريالية ، ففي لوحة (سمكة ) تقول لنا ( السمكة التي اصطدتها ذات يأس / تملأ الحوض بكاء أخضر السواد / والحوض شاشة لعرض الذكريات ) وتضعف في لوحة اخرى لتنحب بصمت ( احيانا ابكي / فتنساب عني الالوان ) واذا كانت الشاعرة ذات كبرياء ، الا اننا نجدها تترامى احيانا تحت قدميه لتخاطبه بودّ ولهفة،( ان منحتك الغفران / هل تعود لي ) الا انها وفي ذات الوقت تتمرد عليه بفعل المواجهة (فَقأتُ بالونات أحلامك ) وتعذبُ الصورة الشعرية عندها بسبب عدم قدرتها على المواجهة إذ تقول ( احاول الاختباء والهرب / كطفل كسر زجاج جيرانه بالكرة / لكنه لايفكر بالاعتذار ) فهي مازالت متضاربة الاهواء والمشارب ، لاتدري ماذا تفعل مع هذا (النمرود ) فهي مرة تتوسل ، واخرى تحطم فيها الصنم الإله الذي رسمته في ذهنها ، والذي لايحس بنبضها ، الامر الذي دفعها الى ان تعمل على تغيير (البث الموجي ) (واتجاهل نبضي / واضبط نبرتي على نغمة حازمة ) فهي الآن اقوى من ذي قبل . واذا كان الشاعر (شوبنهاور ) يقول : العاصفة التي لاتحطمني تزيدني قوة ومنعة ،فهكذا نجدها تقف امامه لتقول له (تزيدني قوة بطعناتك / وازيدك ضعفا بصمتي ) لكن هذا القلق المتصاعد عندها ،يتركها (حيرى ) يصاحبه ذلك التأزم العاطفي ،الذي يتركها مُسهدة دائما (انا التي لا اجيد ان انام / كما الأنام ) وهكذا تتكرر لدى الشاعرة الالوان في لوحاتها الفنية ،ففي لوحة اخرى تحاول الشاعرة تغيير الالوان المتعارف عليها ( اريد وردا ًبلون العشب / وعشبا بلون السماء / وسماءً برتقالية ) وفي لوحة اخرى ( ايها القمر الملوّن / بعد كل كسوف تزداد بهاء / يكبر حبك / تفيض الزرقة فيّ / فأراني قطعة من السماء تسير على الارض ) وتصل الشاعرة آمنة محمود في تجوالها وسياحتها الشعرية الى حقيقة مفادها الى ان كل الاماكن ألم وكل القلوب حجر ،وهي بذلك تقترب من مقولة للشاعر محمد الفيتوري حينما يقول (بداية الرواية الالم ،ونهاية الرواية الألم !) لذا تصل فيها الى درجة رفع الاتهام ضد الحبيب ! وهذه اللوحة مبكية ، لان ماتتفوه به يكذب مافي داخلها ،من ألم ٍيعتصرها عصرا (اتهمك بعدم محبّتي / وليس عندي دليل ضدك / سوى اني - لا احبك - !) وهكذا تخبر الشاعرة المتلقي بان هذا الحبيب المزعوم ،انما هو مجرد وهم ، فتطلقها صرخة مدوية (لا - احبك - ) فاذا كان الامر كذلك ،فلماذا اذن هذه المشاعر الدامية ..؟ في الوقت الذي يرد في بداية قصائدها الاعتراف لعدة مرات (احبك والباديء أكرم ) والذي تعتبره الشاعرة بأنّه (كلّها الموّحد !)وهي تتلاعب بالالفاظ حين تضع العنوان التالي لإحدى قصائدها ،لتعطينا معنيين في ذات الوقت ( ج / غ -لطة دماغية ) فبأية كلمة نبدأ فالمعنى يستقيم ، فاذا أخذناها بمعنى (جلطة دماغية ) او بمعنى (غلطة قلبية ) فالمعنى يستقيم !واذا كانت الجلطة ، توصف طبيا بانها ذلك التخثر الدموي في الدماغ ، فان توقف القلب عن النبض ، يقال له (سكتة قلبية ) وكانها تريد ان تعترف ان حبها كان غلطا ً منذ البداية ! وانها بسببه وصلت الى حدّ الانهيارات المتتالية ،التي كلما نأت عنها ، عادت ثانية لترتطم بها ( إرتقت إنهياراتي سقف روحي / وألقت بنفسها من جديد إليّ ! وموضوعة التلاعب بالالفاظ يذكرني بقصيدة لشكسبير ،وردت فيها كلمة Uderstand ومعناها(يفهم )حيث يمكن تجزاتها الى كلمتين هما Underو Stand اي ان تقف تحت ، فثيما البيت يبقى مستمرا ، دون أن يختل فيها البناء المعماري! واليكم الان هذا المقطع الجميل الذي تقسم ّ فيها الشاعرة مشاعرها ،حسب الاوقات ( في الصباح أنتَ نشيد وشمس / في الظهيرة ظلّ وإرجوحة أطفال / وفي المساء سراج وسمر وسكينة / حلم لابدّ ان تكونه / مادمتَ تنعتني بالحنونة ؟؟؟) لاحظوا الايقاع في حرف الشين في البيت الاول ، والظاء في الثاني ، اما حرف السين فيتردد لأربع مرات في البيت الثالث ، بما يطلق الانكليز على مثل هذا الايقاع (فحيح الافاعي !) Hissing Sound
وأقترح اخيرا على الشاعرة ان تحرق اوراق القضية ،إذ اناديها بصوت ٍ عالٍ (مزّقي / وحرّقي / فمن الظلم ان ترفقي / حطمي برج نيرون / والصولجان ..!) خصوصا عندما يكون هذا المقابل ، لايستقبل مثل هذا البث العاطفي ، وهذا الخضم الهائل من المشاعر ، فلم يتبق َ أمام الشاعرة الا ان ترفع الفأس لتكسر تمثال هذا الطاغية نيرون ومعه هذا الصولجان الذي يتحكم فيه ...!وان تستبدل كلمة المخاطب (أنت َ) بموضوعات اخرى كثيرة ومتباينة تعج بها الحياة ، واقترح عليها ان تخفف ولو قليلا من غلواء هذا المثال المُبهم من الذكور..!!