وجدان عبدالعزيــز
قد أنطلق من قول عبدالله الغذامي : ( جاءت ( الكلمة ) لتحتل المنزلة العليا في القيمة الأدبية فصارت عند فارسها رولان بارت تلمع بحرية مطلقة وتتهيأ لتصدر إشعاعاتها نحو تداخلات مبهمة لا حصر لها ولكنها جميعا ممكنة ، فبعد إلغاء العلاقات الثابتة أصبحت الكلمة ذات وجود عمودي كالسارية أو كعمود منتصب في فضاء من كليات المعاني المطلقة بكل ما فيها من انعكاسات وأصداء ، إنها إشارة منتصبة والكلمة الشاعرة هنا هي حدث لا يباشره ماض لصيق ولا بيئة ثابتة ... ) من هذا المنطلق قد نجد لذة الاكتشاف حينما نتداول قصائد الشاعرة آمنة محمود في ديوانها ( فراشات آمنة ) لاسيما إضاءات العنونة بين آمنة الشاعرة وبين الفراشات الآمنة أي المتآلفة مع المكان والبيئة ، فهل أن الكلمة عند الشاعرة قد أخذت مدياتها الشاعرية في مجمل قصائد الديوان تقول : ( أنت محبة ) وتنزل عند المتن لتتبعثر هذه المحبة بتوتر الصعود والهبوط بين النجمة البعيدة والأميرة والمؤودة ثم تتسائل :
( فأين مني الجدوى : أروع
والسدى أنشودة ؟
لتسقط في متاهة طريق اللاعودة ...
( تعيسة وغافلة
ثم
غابة عذراء أصيبت للتو بحريق كبير : أنا
حزن شق طريقه في بحر غريب ..
وحين إلتفت
كان قد اختفى .. طريق العودة )
ثم يكون
( الصمت الذي يدور في فلك الصخب
خسفه الكلام بأرضه المدورة الكبيرة
فتبعثر ــ فقط ــ من أجلك
قلت سأصنع حبا من حزن
قلت سأمحو حزنا من قلب
كنت أحاول إصلاح ابتسامتك
لم يخطر لي ببال .. أن ينطق وجهك
في أبكم هذيانه : ـ ممنوع العبور . )
ثم تؤكد :
( أنت محبة .. وأنا أحبها )
وكما هو أي الآخر ( على عجل / وبارتباك / يطفئ السيجارة / حين أدخل / ويفتح الشباك / كأنني أمه التي يحب / ألا تغضب أو تثور / وبينما ينكبُّ على الكتب . ) وهنا تعاملت مع الكلمة تعامل حذر ، حتى جعلتها سارية المعنى فيا ( حارس مقبرة الأحلام ) ( حلمي متعب / من توالي موته والحياة . ) والظاهر هناك توالي في الحركة والسكون أو الصمت ويمثله الموت والضجيج وتمثله الحياة ورغم هذا عاد ( حاملا كتب التاريخ وقصائد المطر . ) حيث اجتمعت في قولها الآخر : ( بريئة وقاتلة ) المتناقضات ولا تخلو هذه الأمور من بحث مستمر وجاد في مساحات الجمال وهي تتلاعب بالكلمة لتزيحها أحيانا إلى معنى آخر خارج قاموسها أي قاموس الكلمة أو إضافة معنى قاموسي آخر لها والدليل قولها
( وحين تستفيق
تمطر الروعة ندى .. على العصافير
فتنتفض .. وتعلن الاحتفال . )
حيث اجتمعت أشياء الطبيعة من ندى وعصافير ، ليكون هناك كرنفال فرح اللقاء في الحلم الذي ...
( أي : أنك أروع من أن
تكون بشرا
أي : إنسانا يسير على قدمين فقط . )
ورغم التردد والحيرة والبحث المضني في كشف الحجاب عن مدى القبح إلا أن الشاعرة تقول :
(أنزلق ...
تتكسر الــ ( لا ) ...
وتبقى أحبك
هائمة . )
بسبب أنه ( فلاح الذاكرة ) ( يستنسخ نفسه .. يمحو الآخرين / ويغلق على نفسه الذاكرة ) و ( حقيبتك : مسرح الدهشة وقبعة الساحر / ألوان .. ضحكات .. وصور طفولة . ) ونحن إذ نزيد تكثيف الملاحظة لنكتشف إنها تحقق نبوءتنا في أنها تعتني بالكلمة محاولة بذلك جعلها مثيرة للدهشة من خلال التجاور والمغايرة ، إذ تقول :
(أفتح الباب .. أدحرج الضجة التي تبلورت ..
من شدة الصمت . )
وبجمع الضجة شدة الأصوات بشدة الصمت ومن بين هذه المتناقضات تعلن :
( أنا لا أحبك
أنا لا أحبني
فقط أحاول .. أن لا أكون غيري
حين أكون معك )
وهي فلسفة خلق اللاوجود من وجود محكوم بالعدم داعمة ذلك بقولها :
( أنا بلا قلب .. ليس لأن قلبي معك
ليس لأن قلبي مات .. أو أميت
ليس لأني بلا وطن منذ استحال وطني إلى شلال
ضوء منطفئ . )
فكيف يكون شلال ضوء إذا هو معدوم ، إذن هي خلقت سلسلة من الأسئلة المتوالدة وبدون أجوبة ، أي ترك الحلول لحالات التأمل وكد الذهن في اكتشاف المغزى ، من هذا حدث البحث مصحوبا بـ ( فراشات الشبكة ) أما في ( فراشات النار ) دخلت الشاعرة آمنة محمود في أسطرة الأشياء بالتناص وخلق علائق افتراضية بين السطوح والأعماق بين الظاهر والباطن وجمعت جملة من الأسماء الأسطورية والأخرى من رفات التاريخ لتعلن براءتها هي كباحثة عن الحقيقة إذ تقول :
( صافح ميداس ميدوزا
في اللحظة التي نظرت إليه
فاستحال الاثنان صخرا ذهبيا
ومن قلب الصخر انبثق النفط . )
ثم
( مبارك دبيبهم المقدس
نحو مئذنة النحيب
ما عاد شوك يعيق حصاد الورد
الصخر مطحون .. والريح جوفية )
( وهي تبحث عن عد ( ن / م )
في الظاهر عدم بمعنى أن الواقع المحيط هو سيئ وفي الباطن عدن ( وهو أسم لأحدى الجنان ) وهي دواخل ما تحمله الشاعرة وجل طموحاتها وهذا بالتأكيد حرك قلقا عكسته بقولها :
( أنا بنت حطامي
ولي وطن من عطر الورد
من ماء الورد
من دمع الورد
دم الورد
ورد الورد
آه . يا وطن القلب
منذ تورطنا بحبك المشروط بالقياس الأقرن
وأنت تنجب رؤى خديجة .. وتضع الأصفاد في أيدينا
زهرا أزرق
شاهك يحمل البيادق بيد
ويلوح بالأخرى للطائرات بالنار الأزلية
فيسقط البوشيدو كالدومينو . )
( يا حلم التحول من جحيم المطاردة
طا ( ب / ل ) غيابك المهدي
وهكذا تتلاعب الشاعرة بصورة الكلمة برفع أو إبقاء حرف معين ليكون المعنى مزدوجا أي أنها تستعمل أقنعة لتختفي هي كذات شاعرة باحثة عن الجمال ويختفي معها المعنى ليظهر جليا بعد لأي من الزمن تقول :
( وأغلقنا علينا القبر ( و / ر )
ثم
( طروادة تسقط
سقط ( البلاد .. يوم )
أم دخل الحصان
طروادة يا مشفى الضوء الكفيف
وفرائس النعمان )
( سقط سلم يعقوب .. وانتهى الحلم بضحكة من نيميس )
وهنا توجب الوقوف والبحث ما وراء المعنى المخفي لتبدأ تساؤلاتنا هل استقرت آمنة محمود وأصبحت كفراشاتها آمنة ، لا نجد مناص من الإعلان بأنها بقيت قلقة ومحلقة في بحثها المستمر ولن تكون ( آمنة ) أبدا أمام الحروب الحقيقية والحروب الأخرى الافتراضية وهي تصرخ منفعلة .
( احترقي .. فنحن الواقدون
ونحن الوقود
ونحن أنت )
في ( من حجرة الخلود ) وهو الذي أشرنا له سابقا من تلاعب في الكلمة لتوليد أكثر من معنى ثم تسخر بقولها :
( لقد نظرت في المرآة .. أبصرت تاجا من قش
والمرابطون زرازير عمياء )
لأن
( المدينة الملأى بإشارات الطرق
توِّجت مملكة التيه . )
و
( هنالك حبل سري .. وحبيب ينبض فيّ
قطع الطبيب ابتسامتها بالقول
حـ ( بّ / مل ) كاذب )
واستمرت تعزف على التلاعب في صورة الكلمة لتجعلها قابلة للتأويلات المتعددة . وفي ( زهرة المنافي ) تسرد لنا أحدوثة شعرية تحمل عدة مفارقات . تقول :
( قالت : كنتَ أنا .. وكنتُ أنت
والعالم لم يكن موجودا حينها
دخل جنتنا رجل من ورق اللعب
يحمل ( رمز التفاح ) .. وقف بيننا
واستحال مرآة بوجهين ، وراح يعبث بملامحنا .
خفنا
وانتزعنا وجهينا من بعضنا لحظة اختفاء الرجل المرآة )
وهذا كشف من أن الشاعرة تعيش حالة اللااستقرار بسبب حالة الإتحاد مع الحب والحبيب إلى درجة أنهما صورتان في مرآة واحدة متحدة الملامح ، لذا تحاول أن تقول ( ابتسم / كلما أمتد الألم أنهارا بين حدود خريطتك الوليدة / دع القصيدة / جانبا .. رتق جراح الخريطة ) وهكذا لونت الحضور والغياب بالموت والحياة لتطلق أسئلة مستمرة ومتوالدة في فراشات النار هذه والظاهر إنها تعيش حالة قلق من الواقع .. ومن منحى فراشات الشبكة إلى فراشات النار يأتيها منحاها الآخر في فراشات انانا حيث تقول :
( مرة واحدة سمعت ضحكت الدنيا
كان ذلك .. حين رأيتك
لأول مرة . )
( يا ضوء قلبي لا تكترث
خيانات صغيرة لا تقتلني
وأن كانت تؤذيني
تسلّ حبيبي كأنك لم ترني
أهكذا تكون مطمئنا ؟
هذا كل ما يعنيني )
ونلاحظ هنا وجود حالات من الأمان عكستها الكلمات الرشيقة المرنة رغم استمرار حالات الخذلان مما يدلل على إن الشاعرة اعتمدت على ما تبثه كلمتها من إشعاعات ، حيث تقول :
( حالفني الحظ أخيرا
صرت كائنا بحريا
حالفني الحظ ، سأبحث عنه
غريقا ما عاد إليّ
ربّـ ( ما) ت الشهيد
د ( م )2 سيح آخر يا وطني )
وبين تسلية الحبيب بافتراض غيابها وبين محالفة الحظ لها ، وهنا اكتشافات قد لا نصل بها إلى الحقيقة التي تنشد الوصول إليها الشاعرة وهي تردد
( بينما كنت تتماثل للحب
كنت أنا دمية يتنازع عليها
أولاد مشاكسون على قمة سحيقة
وحين هوت من يد أحدهم
عادوا للعب من جديد
فلماذا تلقفتني بجماليون )
أما في قصيدة مسلة حب أعلنت أنها خلقت للحب وإنها وفية للحبيب إلى درجة أنها حينما تهرب منه تهرب للاشيء ( أحبك / أهرب منك للااحد / أنسج حجبا ضوئية / أتوارى .. أشتاق .. أتيه ) ( أحبك / سيئ . الأسوأ / لا أحب سواك ) ثم تختصر فلسفتها بالشعر حينما تقول : ( لا بد من الشعر / لجعل ما يحصل / يبدو حقيقيا ) وتقصد أن هذا العالم التيه أي الشعر حقيقة مطلقة لذا فأني ( أمتص رحيق الأحلام / حين أشعل فتيل الأقلام ) و ( لن أقامر بضوئي / على طاولة الرؤيا ) ، وكأني بها تحاول التخلص من أمراض الشعر والأحلام ولكن انىّ لها هذا وهي المغمورة في بحار التيه الشعري .. وتختصر فلسفتها بالشعر إذ تقول :
(لابد من الشعر
لجعل ما يحصل
يبدو حقيقا )
هذا الإصرار على المضي قدما في طريق وعرة من البحث في مضان الكلمات عن معنى .. تقول :
(لن أقامر بضوئي
على طاولة الرؤيا
من اجل الفوز
بكف رجل
قد تقطعها حرب أخرى)
ونحن نتلمس طريقنا في تجوالنا الحذر مع الشاعرة آمنة محمود نجد (إن النص النقدي لا يهدف إلى إنتاج معنى منسق ، بل إلى إبراز التناقضات والغموض داخل النص الأدبي بطريقة تجعله اقل قابلية للقراءة) ، من هذا المنطلق وجدنا في قسم فراشات الخميلة هذا التماهي الذي خلقته في قصيدة (بدايات ـ ربما ـ نهايات) حيث جمعت أسماء عديدة على مائدة الحب مهداة إلى الكاتبة العراقية الكبيرة لطفيه الدليمي من الأسماء (ابوللو) و (مرغريت ميتشل) و(أمل دنقل) و (جميلة بحيرد) ووو ......
وتحققت رؤيتنا عند محطة فراشات الأعياد فـ(كل عيد وأنت أنا / كل أنت /وأنت عيدي) وهنا اتحاد وفناء في الحب وبحث في جماليات الوجود وكنه الوجود تقول :
(الأحياء عنوة
الموتى افتراضا
الآهلون للتشظي في أي شارع )
وبهذا التشظي بقيت آمنة محمود في بحثها المضني وتلاعبها في الكلمة التي جعلت منها ولودة للمعاني .. وهنا نقر بأننا لن نستوفي ما جاءت به الشاعرة من سفر شعري مهم .
المصادر
كتاب الخطيئة والتكفير / عبد الله الغذامي / المركز الثقافي العربي ط6 ص : 64
كتاب المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيكية / عبدالعزيز حموده / المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ــ الكويت 1998 م ( سلسلة عالم المعرفة ص 360
ديوان فراشات آمنة / للشاعرة آمنة محمود دار الينابيع ـ دمشق 2010 ط 1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( فأين مني الجدوى : أروع
والسدى أنشودة ؟
لتسقط في متاهة طريق اللاعودة ...
( تعيسة وغافلة
ثم
غابة عذراء أصيبت للتو بحريق كبير : أنا
حزن شق طريقه في بحر غريب ..
وحين إلتفت
كان قد اختفى .. طريق العودة )
ثم يكون
( الصمت الذي يدور في فلك الصخب
خسفه الكلام بأرضه المدورة الكبيرة
فتبعثر ــ فقط ــ من أجلك
قلت سأصنع حبا من حزن
قلت سأمحو حزنا من قلب
كنت أحاول إصلاح ابتسامتك
لم يخطر لي ببال .. أن ينطق وجهك
في أبكم هذيانه : ـ ممنوع العبور . )
ثم تؤكد :
( أنت محبة .. وأنا أحبها )
وكما هو أي الآخر ( على عجل / وبارتباك / يطفئ السيجارة / حين أدخل / ويفتح الشباك / كأنني أمه التي يحب / ألا تغضب أو تثور / وبينما ينكبُّ على الكتب . ) وهنا تعاملت مع الكلمة تعامل حذر ، حتى جعلتها سارية المعنى فيا ( حارس مقبرة الأحلام ) ( حلمي متعب / من توالي موته والحياة . ) والظاهر هناك توالي في الحركة والسكون أو الصمت ويمثله الموت والضجيج وتمثله الحياة ورغم هذا عاد ( حاملا كتب التاريخ وقصائد المطر . ) حيث اجتمعت في قولها الآخر : ( بريئة وقاتلة ) المتناقضات ولا تخلو هذه الأمور من بحث مستمر وجاد في مساحات الجمال وهي تتلاعب بالكلمة لتزيحها أحيانا إلى معنى آخر خارج قاموسها أي قاموس الكلمة أو إضافة معنى قاموسي آخر لها والدليل قولها
( وحين تستفيق
تمطر الروعة ندى .. على العصافير
فتنتفض .. وتعلن الاحتفال . )
حيث اجتمعت أشياء الطبيعة من ندى وعصافير ، ليكون هناك كرنفال فرح اللقاء في الحلم الذي ...
( أي : أنك أروع من أن
تكون بشرا
أي : إنسانا يسير على قدمين فقط . )
ورغم التردد والحيرة والبحث المضني في كشف الحجاب عن مدى القبح إلا أن الشاعرة تقول :
(أنزلق ...
تتكسر الــ ( لا ) ...
وتبقى أحبك
هائمة . )
بسبب أنه ( فلاح الذاكرة ) ( يستنسخ نفسه .. يمحو الآخرين / ويغلق على نفسه الذاكرة ) و ( حقيبتك : مسرح الدهشة وقبعة الساحر / ألوان .. ضحكات .. وصور طفولة . ) ونحن إذ نزيد تكثيف الملاحظة لنكتشف إنها تحقق نبوءتنا في أنها تعتني بالكلمة محاولة بذلك جعلها مثيرة للدهشة من خلال التجاور والمغايرة ، إذ تقول :
(أفتح الباب .. أدحرج الضجة التي تبلورت ..
من شدة الصمت . )
وبجمع الضجة شدة الأصوات بشدة الصمت ومن بين هذه المتناقضات تعلن :
( أنا لا أحبك
أنا لا أحبني
فقط أحاول .. أن لا أكون غيري
حين أكون معك )
وهي فلسفة خلق اللاوجود من وجود محكوم بالعدم داعمة ذلك بقولها :
( أنا بلا قلب .. ليس لأن قلبي معك
ليس لأن قلبي مات .. أو أميت
ليس لأني بلا وطن منذ استحال وطني إلى شلال
ضوء منطفئ . )
فكيف يكون شلال ضوء إذا هو معدوم ، إذن هي خلقت سلسلة من الأسئلة المتوالدة وبدون أجوبة ، أي ترك الحلول لحالات التأمل وكد الذهن في اكتشاف المغزى ، من هذا حدث البحث مصحوبا بـ ( فراشات الشبكة ) أما في ( فراشات النار ) دخلت الشاعرة آمنة محمود في أسطرة الأشياء بالتناص وخلق علائق افتراضية بين السطوح والأعماق بين الظاهر والباطن وجمعت جملة من الأسماء الأسطورية والأخرى من رفات التاريخ لتعلن براءتها هي كباحثة عن الحقيقة إذ تقول :
( صافح ميداس ميدوزا
في اللحظة التي نظرت إليه
فاستحال الاثنان صخرا ذهبيا
ومن قلب الصخر انبثق النفط . )
ثم
( مبارك دبيبهم المقدس
نحو مئذنة النحيب
ما عاد شوك يعيق حصاد الورد
الصخر مطحون .. والريح جوفية )
( وهي تبحث عن عد ( ن / م )
في الظاهر عدم بمعنى أن الواقع المحيط هو سيئ وفي الباطن عدن ( وهو أسم لأحدى الجنان ) وهي دواخل ما تحمله الشاعرة وجل طموحاتها وهذا بالتأكيد حرك قلقا عكسته بقولها :
( أنا بنت حطامي
ولي وطن من عطر الورد
من ماء الورد
من دمع الورد
دم الورد
ورد الورد
آه . يا وطن القلب
منذ تورطنا بحبك المشروط بالقياس الأقرن
وأنت تنجب رؤى خديجة .. وتضع الأصفاد في أيدينا
زهرا أزرق
شاهك يحمل البيادق بيد
ويلوح بالأخرى للطائرات بالنار الأزلية
فيسقط البوشيدو كالدومينو . )
( يا حلم التحول من جحيم المطاردة
طا ( ب / ل ) غيابك المهدي
وهكذا تتلاعب الشاعرة بصورة الكلمة برفع أو إبقاء حرف معين ليكون المعنى مزدوجا أي أنها تستعمل أقنعة لتختفي هي كذات شاعرة باحثة عن الجمال ويختفي معها المعنى ليظهر جليا بعد لأي من الزمن تقول :
( وأغلقنا علينا القبر ( و / ر )
ثم
( طروادة تسقط
سقط ( البلاد .. يوم )
أم دخل الحصان
طروادة يا مشفى الضوء الكفيف
وفرائس النعمان )
( سقط سلم يعقوب .. وانتهى الحلم بضحكة من نيميس )
وهنا توجب الوقوف والبحث ما وراء المعنى المخفي لتبدأ تساؤلاتنا هل استقرت آمنة محمود وأصبحت كفراشاتها آمنة ، لا نجد مناص من الإعلان بأنها بقيت قلقة ومحلقة في بحثها المستمر ولن تكون ( آمنة ) أبدا أمام الحروب الحقيقية والحروب الأخرى الافتراضية وهي تصرخ منفعلة .
( احترقي .. فنحن الواقدون
ونحن الوقود
ونحن أنت )
في ( من حجرة الخلود ) وهو الذي أشرنا له سابقا من تلاعب في الكلمة لتوليد أكثر من معنى ثم تسخر بقولها :
( لقد نظرت في المرآة .. أبصرت تاجا من قش
والمرابطون زرازير عمياء )
لأن
( المدينة الملأى بإشارات الطرق
توِّجت مملكة التيه . )
و
( هنالك حبل سري .. وحبيب ينبض فيّ
قطع الطبيب ابتسامتها بالقول
حـ ( بّ / مل ) كاذب )
واستمرت تعزف على التلاعب في صورة الكلمة لتجعلها قابلة للتأويلات المتعددة . وفي ( زهرة المنافي ) تسرد لنا أحدوثة شعرية تحمل عدة مفارقات . تقول :
( قالت : كنتَ أنا .. وكنتُ أنت
والعالم لم يكن موجودا حينها
دخل جنتنا رجل من ورق اللعب
يحمل ( رمز التفاح ) .. وقف بيننا
واستحال مرآة بوجهين ، وراح يعبث بملامحنا .
خفنا
وانتزعنا وجهينا من بعضنا لحظة اختفاء الرجل المرآة )
وهذا كشف من أن الشاعرة تعيش حالة اللااستقرار بسبب حالة الإتحاد مع الحب والحبيب إلى درجة أنهما صورتان في مرآة واحدة متحدة الملامح ، لذا تحاول أن تقول ( ابتسم / كلما أمتد الألم أنهارا بين حدود خريطتك الوليدة / دع القصيدة / جانبا .. رتق جراح الخريطة ) وهكذا لونت الحضور والغياب بالموت والحياة لتطلق أسئلة مستمرة ومتوالدة في فراشات النار هذه والظاهر إنها تعيش حالة قلق من الواقع .. ومن منحى فراشات الشبكة إلى فراشات النار يأتيها منحاها الآخر في فراشات انانا حيث تقول :
( مرة واحدة سمعت ضحكت الدنيا
كان ذلك .. حين رأيتك
لأول مرة . )
( يا ضوء قلبي لا تكترث
خيانات صغيرة لا تقتلني
وأن كانت تؤذيني
تسلّ حبيبي كأنك لم ترني
أهكذا تكون مطمئنا ؟
هذا كل ما يعنيني )
ونلاحظ هنا وجود حالات من الأمان عكستها الكلمات الرشيقة المرنة رغم استمرار حالات الخذلان مما يدلل على إن الشاعرة اعتمدت على ما تبثه كلمتها من إشعاعات ، حيث تقول :
( حالفني الحظ أخيرا
صرت كائنا بحريا
حالفني الحظ ، سأبحث عنه
غريقا ما عاد إليّ
ربّـ ( ما) ت الشهيد
د ( م )2 سيح آخر يا وطني )
وبين تسلية الحبيب بافتراض غيابها وبين محالفة الحظ لها ، وهنا اكتشافات قد لا نصل بها إلى الحقيقة التي تنشد الوصول إليها الشاعرة وهي تردد
( بينما كنت تتماثل للحب
كنت أنا دمية يتنازع عليها
أولاد مشاكسون على قمة سحيقة
وحين هوت من يد أحدهم
عادوا للعب من جديد
فلماذا تلقفتني بجماليون )
أما في قصيدة مسلة حب أعلنت أنها خلقت للحب وإنها وفية للحبيب إلى درجة أنها حينما تهرب منه تهرب للاشيء ( أحبك / أهرب منك للااحد / أنسج حجبا ضوئية / أتوارى .. أشتاق .. أتيه ) ( أحبك / سيئ . الأسوأ / لا أحب سواك ) ثم تختصر فلسفتها بالشعر حينما تقول : ( لا بد من الشعر / لجعل ما يحصل / يبدو حقيقيا ) وتقصد أن هذا العالم التيه أي الشعر حقيقة مطلقة لذا فأني ( أمتص رحيق الأحلام / حين أشعل فتيل الأقلام ) و ( لن أقامر بضوئي / على طاولة الرؤيا ) ، وكأني بها تحاول التخلص من أمراض الشعر والأحلام ولكن انىّ لها هذا وهي المغمورة في بحار التيه الشعري .. وتختصر فلسفتها بالشعر إذ تقول :
(لابد من الشعر
لجعل ما يحصل
يبدو حقيقا )
هذا الإصرار على المضي قدما في طريق وعرة من البحث في مضان الكلمات عن معنى .. تقول :
(لن أقامر بضوئي
على طاولة الرؤيا
من اجل الفوز
بكف رجل
قد تقطعها حرب أخرى)
ونحن نتلمس طريقنا في تجوالنا الحذر مع الشاعرة آمنة محمود نجد (إن النص النقدي لا يهدف إلى إنتاج معنى منسق ، بل إلى إبراز التناقضات والغموض داخل النص الأدبي بطريقة تجعله اقل قابلية للقراءة) ، من هذا المنطلق وجدنا في قسم فراشات الخميلة هذا التماهي الذي خلقته في قصيدة (بدايات ـ ربما ـ نهايات) حيث جمعت أسماء عديدة على مائدة الحب مهداة إلى الكاتبة العراقية الكبيرة لطفيه الدليمي من الأسماء (ابوللو) و (مرغريت ميتشل) و(أمل دنقل) و (جميلة بحيرد) ووو ......
وتحققت رؤيتنا عند محطة فراشات الأعياد فـ(كل عيد وأنت أنا / كل أنت /وأنت عيدي) وهنا اتحاد وفناء في الحب وبحث في جماليات الوجود وكنه الوجود تقول :
(الأحياء عنوة
الموتى افتراضا
الآهلون للتشظي في أي شارع )
وبهذا التشظي بقيت آمنة محمود في بحثها المضني وتلاعبها في الكلمة التي جعلت منها ولودة للمعاني .. وهنا نقر بأننا لن نستوفي ما جاءت به الشاعرة من سفر شعري مهم .
المصادر
كتاب الخطيئة والتكفير / عبد الله الغذامي / المركز الثقافي العربي ط6 ص : 64
كتاب المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيكية / عبدالعزيز حموده / المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ــ الكويت 1998 م ( سلسلة عالم المعرفة ص 360
ديوان فراشات آمنة / للشاعرة آمنة محمود دار الينابيع ـ دمشق 2010 ط 1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الزمـــان الطبعة الدولية , وطبعة العراق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنانة رؤى البازركان