24 استطلع آراء الفريقين من كبار مثقفي العراق، ممن أثاروا نقع تلك المعركة. بغداد التي انقسم مثقفوها بين مؤيد ومعارض لفكرة تنصيبها عاصمة للثقافة، بحيث بدا الأمر كفريقين بجبهتين، الأول يرى أن هيبة بغداد اليوم ليست كما يجب، لا مدنياً ولا معمارياً ولا اجتماعياً لتستقبل مثل هذا المهرجان المتصل على مدار العام، والآخر يعتقد بأن الأمر يحتاج إلى الجرأة والمحبة لتجاوز ذلك النكوص.
جواد الحطاب ، الأمين العام الأسبق للأدباء والكتاب العراقيين، قال: "أجد أن ما يقال (مع وضد) فعاليات بغداد عاصمة للثقافة العربية دليل عافية للحوار الذي افتقدناه من زمن، شريطة ألا يقع الـ(مع) والـ(ضد) في الإرهاب! يعني تجريم الآخر حتى المناداة بتصفيته. بغداد لم ترتبط باسم حاكم أو رئيس او سياسي معين منذ تأسيسها، ارتبطت بدجلة، بابي نؤاس، بألف ليلة وليلة، نعم، ولذلك أجد أن تجريم الاحتفاء بها يجانب الحقيقة.
بغداد لم تزل تنزف، وكلما تعافى جرحٌ فتح الإرهاب ألفاً؛ ولذلك يجب أن يشد المثقفون والأدباء شرايينهم بشرايينها كيلا تسقط من كبريائها الذي عرفه حتى هولاكو. في ديواني الأخير كتبت (ولدنا مصابين بالعراق..هل أحد يصاب بالجغرافيا) قدرنا وقدر بغداد هذا.
الشاعر عارف الساعدي يقول: "على الرغم من كل الملاحظات التي قيلت والتي ستقال عن بغداد عاصمة الثقافة العربية إلا أننا كمثقفين فرحون كثيراً بهذا المشروع لأسباب منها أننا اعتدنا منذ عشر سنوات أن تصدر لنا الدول العربية مفخخين وانتحاريين يقتلون أطفالنا قبل أن يجرحوا أي دبابة أمريكية! أقول اعتدنا على ذلك الأمر ولكن الآن نرى في عاصمة الثقافة العربية في بغداد نرى أن العرب بدأوا يصدرون لنا شعراء وموسيقيين ومسرحيين وأدباء ومثقفين وهذا تحول خطير في زاوية النظر اتجاه العراق نحن نكبرها ونحترمها ونقدر مقدم المثقفين العرب إلينا في هذه الأجواء التي قد تسهم بنقل صورة حقيقية عن العراق مغايرة لأخبار الفضائيات التي تزيد النار على أجسادنا".
الكاتب صلاح السيلاوي يقول: "لا أحد من المثقفين ضد سعي وزارة الثقافة العراقية لتسليط الأضواء على الحراك الثقافي عبر مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية ولكن أغلب الآراء التي عبرت عن امتعاض أو نقد حاد انطلقت من منطقة الحرص على اظهار بغداد بثوبها الثقافي الجوهري. أنا سعيد جدا بانطلاق هذا المشروع الذي يمكنه إبعاد أشباح الغياب الثقافي العربي العراقي ويكسر الجدار الوهمي بين الثقافات العربية والعراقية، ولكن تصويبات النقد كلها، استهدفت الآليات المتبعة لإقامة المشروع، إذ تخوف المثقف العراقي من استغلال المشروع لحسابات سياسية من دون الاعتماد على استراتيجية ثقافية. كل هذا بالإضافة إلى اتضاح عدم اهتمام الحكومة بالبنية التحتية للثقافة العراقية، فلم ترصد أموال ضخمة لبناء مسارح مهمة ولا بنايات أخرى معنية بالسينما والفنون التشكيلية وغيرها".
الشاعرة آمنة محمود ترى أن الثقافة العراقية تعيش مرحلة حرجة من التناحر والتراشق بالاتهامات، مع انتشار ظاهرة الثأر الثقافي ورفض تقبّل وجهات النظر التي على طرف النقيض والعشائرية الشعرية بين أشكال الكتابة. كيف تستطيع ثقافة "هي بحاجة إلى غرفة إنعاش" أن تتصدّر الثقافة العربية". وتضيف: "وزارة الثقافة العراقية "عملياً" هي بلا وزير، وهنا تكمن أغرب مفارقة أن يكون وزير الثقافة هو وزيراً للدفاع في نفس الوقت".
ولكن، أوليس الأجدر اليوم الوقوف بصف بغداد بدلا من تبادل الاتهامات، سألنا آمنة اجابت: "أجل الأجدر هو الوقوف بصف بغداد والنهوض بها حتى تصبح بمستوى الحدث لا أن نقحمها بفعالية ليست مؤهلة للقيام بها. كيف نستطيع الاحتفال بالثقافة والعنف هو المتحدث الأول والصوت الأعلى في الشارع العراقي".
الشاعر محمد البغدادي أحد مفردات الاحتفالية هذا العام، يقول: "أستطيع أن أقول بلا تردد إن بغداد تكاد تكون منسية في قلوب كثير من المثقفين العرب وعقولهم، فهم يتذكرون بوضوح شديد بغداد التي كانت في الثمانينات وحتى حرب 1991، أما ما بعد ذلك التاريخ وحتى الآن فلا يكادون يعرفون عنها شيئا. إنها السياسة، والسياسة وحدها هي التي حجبت هذه المدينة الحية بالسواد، وجعلت عيون الشعوب القريبة والبعيدة تكاد لا تراها حدَّ النسيان. ومن هنا أستطيع أن أفسر كل اللغط الذي صاحب إعلانها عاصمةً للثقافة العربية"
يردف البغدادي: "تبادلت اليوم أطراف الحديث مع شاعر عربي صديق فدعوته لزيارة بغداد فأجابني بأنه سيزور بغداد حين تزول العاصفة! فقلت له: لن تزول العاصفة إن لم تجيئوا لتغرسوا حولها أشجار محبتكم ولتثبِّتوا رمالها المتحركة بشتلات ورودكم! هذا هو رأيي، تعالوا أيها المثقفون العرب إلى بغدادكم حاملين أقلامكم وشتلات محبتكم، فبغداد المتروكة للاحتلالات لا تحتاج إلى دباباتٍ ومسلَّحين ومفخخين ليخلصوها من الاحتلال، بل إن هذه الأشياء تطيل عمر الاحتلال، تماما كما يطيله غياب المثقفين وحملة القلم عنها".
الكاتب والصحافي ضياء الأسدي أكد أهمية الحدث بقوله: "رغم ما قيل وما تردد من قبل أغلب المثقفين العراقيين على أن افتتاح فعاليات تتويج بغداد عاصمة للثقافة العربية افتقرت الى الإمكانيات والدلالات التي تليق وأهمية هذا الحدث الثقافي الكبير بما رصد له من أموال طائلة من شأنها إضفاء جمالية هائلة على تلك الفعاليات والتي توقعها أكثر من متابع لهذا الحدث العظيم، أقول حتى مع كل هذه الإخفاقات ـ إذا جاز لنا هذا التعبير ـ إلاّ ان سمة بغداد عاصمة للثقافة العربية يجب أن تطغى على كل اختلاف وتخالف بين المثقفين العراقيين الذي آثروا الانزواء بعيداً عن مسرح تلك الايام بسبب عدم إشراكهم في بلورة رؤية ثقافية تتيح لتلك الفعالية الخروج بجمالية أكبر وتنسجم مع ما رصد لها من أموال، ولكنني مع هذا الرأي أيضاً، إذ كان يتوجب على وزارة الثقافة العراقية أن تشرك الاتحاد العام للأدباء والكتاب بما يمتلك من إمكانيات كبيرة كانت ستساهم في اضفاء لمسات ثقافية مرضيّة على اقلّ تقدير الى جانب مشاركة الجميع في هذا الحدث الهام وعدم اقتصار المشاركة على اسماء محددة لها موقف رافض من سياسة الاتحاد والقسم الأكبر من رموزه الثقافية".
المسرحي عبدالخالق كيطان يرى أن مشروع "بغداد عاصمة للثقافة العربية" أثار الكثير من الجدل بالنسبة للمثقفين العراقيين لأسباب عدة، لعل أولها الفساد، والذي وصم مؤسسات الدولة العراقية الجديدة، دولة ما بعد 2013، بشكل شبه كامل. ويضيف: "الفساد في العراق اليوم يتخذ أشكالاً مختلفة، ولم يسلم المشروع من ذلك. الميزانية التي رصدت للمشروع ضخمة للغاية، ولكن المتحقق على الأرض يسير للغاية. وأول ملاحظة يمكن تسجيلها هنا هو أن المشروع لم يستطع، على سبيل المثال، أن ينهض بالبنية التحتية للقطاع الثقافي العراقي. لدينا دور سينما عتيقة ومتهالكة، لم يمد المشروع يداً لإعمارها مثلاً، وبالنسبة للمسرح، ظل الاعتماد على صالة يتيمة، هي صالة المسرح الوطني. كما أن هنالك موقف قبلي بخصوص المشروع، وهو يخص المثقفين الذين يتحدثون عن "الاحتلال" و"العملاء"، وخير ممثل لهؤلاء هو الشاعر سعدي يوسف الذي دعا بشكل صريح لمقاطعة الفعاليات، وبالنسبة لي أقول أن هذا الكلام ليس دقيقاً. أعتقد أن مشروع بغداد عاصمة للثقافة لا علاقة له بالموقف من نظام الحكم في العراق".
ويختم كيطان: " ولكن مدينة بحجم بغداد تستأهل أن تكون عاصمة للثقافة، إنما المشكلة في طبيعة الوزارة المعنية بالحدث، فهي وزارة ليست للمثقفين، وقد كشف حفل الافتتاح، على سبيل المثال، أنها وزارة للعسكر أكثر منها للمثقفين".