إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، أبريل 13

تكريم الكاتب الكبير الراحل جليل القيسي



اقام الحزب الشيوعي العراقي وبالتعاون مع أدباء كركوك حفل تكريم وأستذكار للراحل جليل القيسي وبحضور الدكتور مفيد الجزائري
الأساتذة ناجح المعموري , د।عقيل مهدي , حسب الله يحيى , د।زهدي الداودي , جاسم عاصي , وسعد عزيز عبد الصاحب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اختراق الزمن في

(( مملكة الانعكاسات الضوئية ))

آمنة محمود

(( ها قد أدركت أن هذا الماضي أصبح حاضراَ في غفلة من الزمن وبإمكاني أن ألمسه بيدي وأن أشمّه . أدركت الآن إمكانية الترحال عبر الزمن كما يسافر الآخرون في الفضاء )) –

( إليخو كاربنتير / الخطوات الضائعة )

تعتبر الأسطورة وكما هو معروف قصّة خرافية يسردها الخيال وتبرز فيها قوى الطبيعة في صور كائنات حية ذات شخصية ممتازة . فهي بهذا لا تعني التنّحي عن الواقع, بل إيجاد مطابقة أكثر دقة بين الواقع الذي هو خيال والخيال الذي هو واقع. وإذا كان الإنسان العصري قد تمكن عن طريق العلم فكّ رموز الطبيعة التي كانت مستعصية على الإنسان الأول والتي تسببت في خلق الأساطير فإن ذلك يحتِّم علينا الوقوف أمام المعادلة التالية : بدائية وسلام / رفاهية وحرب , لتنتج لنا أخيرا إنسانا آخر من نوع جديد يرفض الحرب والبدائية ويسعى من اجل الرفاهية والسلام .

تمثل ذلك في القاص جليل القيسي الذي ينتقل بنا في مجموعته القصصية " مملكة الانعكاسات الضوئية " الى بلاد سومر وأكد وبابل ونينوى عن طريق خروقات زمنية الى العصور الموغلة في القدم . ومن الممكن إعتبار هذه الانتقالات نابعة من رغبة في معالجة الحاضر عن طريق إبراز صورة مناقضة تماما للواقع من اجـل الخروج بصورة مثالية لا منطقية لكنـها قابلة للتصديق . ولم يقتصر هذا الخرق أو الانتقال على الزمن الأسطوري بل تعدّى ذلك الى ولوج عالم الروائي الكبير ديستو فيسكي , ولعلّ التوافق الفكري والانسجام الروحي بين الأديبين والقراءات المستفيضة لتلك الروايات واستيعابها من قِبَل القاص قد ولَّد لديه شحنات مكنّته من ولوج هذا العالم من امتلاك القدرة على تصوير فعاليات الشخوص الروائية داخليا في عالمها الشعوري واللاشعوري ونظرتها الى الشخوص الأخرى .

في هذه القراءة نحاول التعرف على تلك الانتقالات الزمنية وكيفية حدوثها , وكقاعدة أساس علينا التوقف على أمرين أولهما نظرة القاص للزمن , فهو يرى أن للزمن أكثر من بعد : ((لقد فقدت زمني يا ضيفنا العزيز وأنا بعد صغير – لا , لم تفقد زمنك , إنما جعلته ذا بعد واحد )) (1) ( جروشنكا ص 135 ) .

ثانيهما : أن على قارئ قصصه أن يؤمن بالتزامنات غير السببية من سبر أغوار القصص التي قد لا تمنح نفسها للقارئ دون أن يكون له وعي بوبجود النفس الوثابة : (( ألا تعرف إن هناك تكرار قانونيا للأحداث .. لا تدركه الاّ النفس الوثّابة )) ( توهّج بلازما الخيال ص67 ) . وبذلك يحتاج القارئ إلى طاقة تأمّلية كي يتمكن من خلالها النفاذ عبر أجواء تلك القصص وكي تمنحه أيضا استمرارية التواصل حتى النهاية , يقول سارتر : " ينبغي للمرء كي يحدد الصفات الصحيحة للصورة الذهنية بوصفها صورة ذهنية أن يلجأ الى قصد جديد , لابد للمرء ان يتأمّل " (2) وعلى هذا الاساس ينبغي التعامل مع قصص جليل القيسي كألوان مستقلة , وحرّة في التنقل عبر الأزمان .. ( إذا كان البابلي منذ اقدم العصور يترنم بهذه الأبيات : (( غرباء حتى مع أنفسنا / نجوس أزمنة الماضي والآتي / دون قيثارات / هكذا كان حكمنا الأبدي )) (3) فلا عجب أن ينتقل إنسان " عصري " عبر الزمن , وذلك ينبع من إحساس عميق بالغربة وليس بداعي الهرب , بل من أجل تحقيق أهداف إنسانية نبيلة ابتعد المؤلف فيها عن الخطاب المباشر والحلول التوفيقية , فكانت تلك الانتقالات مرآة تعكس لنا صوراً إنسانية رائعة لحضارة وادي الرافدين ولأدب الروائي الكبير ديستوفيسكي , كما إن كولن ويلسن حين يبحث في " ما فوق الطبيعة " يستشهد برويات ثلاث إحداها " الاخوة كرامازوف " (4) فإن القاص في جروشنكا تبنّى هذه الروايات بالتحليل والتفسير بإطار قصصي وبما فوق الطبيعي , بمعنى آخر بفنتازية مُقنِعة . إن اتحاد الخيال بالذوق لدى الكاتب , إضافة الى اللغة المؤلَّفة من الدلالات خلقتْ جوّاً أقرب للتصديق والإقناع حيث إقترن الانتقال الزمني بحالات داعمة لحدوثه نوردها كالآتي :

1- في قصّة فتاة مجدولة بالضوء . يقرأ البطل قصص المغامرات والقصص الشبيهة بألف ليلة وليلة , أي إنّهُ يكون مهيأً نفسياً لتقبّـل الوضع الجديد وهو قدوم زائرة من زمن متقدم تنتقل بالبطل نحو الزمن الماضي لكن ما يدعم هذه الحالة أكثر إن البطل أو القاص ( اللّذَين يمتزجان في أحايين كثيرة حيث يستعمل القاص اسمه أو حرفه الأول في تلك القصص ) يحدث الإنتقال معهما مرورا بتناوله مشروبا كحوليا يضعه في حالة بين الخيال واليقظة . وربما لأن القصة المذكورة أولى قصص المجموعة فأن تلك الفتاة تكون عاملا مساعدا لإنتقال القاص وتمهيدا للقارئ لقبول الحالة عندما تتكرر في القصص الأخرى ودون وساطات ..

2- في قصة " نيبدابة " يصاب البطل بضربة شمس ( تخف وطئتها في الليل ) حين يلتقي في منطقة الأهوار بنيدابة ( آلهة القصب والهور ) ويرحل معها إلى اللا محدود ثم تعود به إلى ارنجا مدينته الأسطورية..

3- قصة " توهج بلازما الخيال " يزور الكاتب الروسي ديستو يفسكي القاص جليل القيسي عن طريق الندائات التخاطرية التي يوجهها الثاني للأول لكن ذلك لا يتم إلا حين أصابته بالحمى ..

4- أما قصة " مملكة الانعكاسات الضوئية " التي تحمل المجموعة عنوانها فإن الكاتب ينتقل : (( بقوة سحرية غريبة وجدت نفسي في بابل )) ( ص 29 ) لكن هذا الانتقال سبقه لقاء الكاتب البطل بمرودخ كبير الآلهة وإنكي إله الماء والحكمة . بعد تناوله مشروبا كحوليا وقدما له دعوى لزيارة بابل ..

5- تبقى حالات ثلاث ينتقل فيها القاص عبر الزمن مباشرة ودون تأثـير الحالات السابقة وهي :

أ‌- في قصة " جروشنكا " يقف البطل وبدون مقدمات امام بيتها " كان الوقت مساءً عندما توقفت أمام بيت جرافينا الكسندروفنا جروشنكا " (ص130 ) التي هي إحدى شخصيات رواية الاخوة كرامازوف ..

ب‌- " أنا عاشق سفر : أسافر في يقضتي , وفي احلامي , ويتشظى خيالي في عوالم نائية " ( ممملو ص146 ) هكذا يبدأ بطل هذه القصة بسردها في مدينة نفر وهو يقدم القرابين للاله أنليل ( اله الزوابع وتقدير المصائر ) .

ت‌- " أمسية قصيرة مع الامير " ينطلق الكاتب من نقطة الوصول – باب غرفة الأمير مشكين في المستشفى – وبطل رواية الأبله لديستويفسكي .

أن ما يربط بين الحالات الثلاث المذكورة أعلاه أن الكاتب يبدأ من نقطة الوصول ولا غرابة ان تكون هذه القصص آخر قصص المجموعة حيث لا يحتاج القاص فيها الى تمهيد وإيضاح كما حدث في المراحل الاولى . ولعل أبرز الملاحظات حول موضوع الرحيل عبر الزمن في هذه المجموعة القصصية:

- تشترك جميع القصص المذكورة سابقا بالإنتقال الزمني لكن في البعض منها الخرق زمكاني كما في " جروشنكا" و " أمسية قصيرة مع الامير " حيث ينتقل القاص الى الاماكن التي جرت فيها احداث الروايتين بينما تقتصر أنتقالاته الزمكانية في القصص الاخرى ضمن حدود بلاد وادي الرافدين ..

- اختراق الزمني نوعان : أن ينتقل البطل بنفسه أو يُختَرَق من قبل شخوص يود لقاءهم عدا قصة " مملكة الانعكاسات الضوئية " حيث يخترق القاص من قبل الالهة ثم ينتقل الى بابل وقصة نيدابة تزوره الالهة وتنتقل به الى معبدها ثم تعيده للحاضر ..

- يكون الإنتقال في مواقع ثلاث مقرونة بوجود إحتفالية أو طقس ما :

أ‌- اعايد الايكيتو ( رأس السنة البابلية ) :مملكة الانعكاسات الضوئية .

ب‌- يوم تقديم النذور السائلة للإله أنليل: (ممملو) .

ت‌- يوم الارواح المقدسة:( جورشنكا )

ث-" أن مزاعم المرء وآراءه ليست ملكا له بأي مفهوم من المفاهيم التي قد تجعل الجسم خاضعا لفكرة الذات . أي أن المرء ليس أصل هذه المزاعم والآراء ( بل الأصح أن نقول إنها أصله ) فأسبقية توافرها تحدد سلفا السبيل التي يمكن لوعيه أن يسلكها ( 5 ) بالاعتماد على هذه النظرية نستطيع أن نقول إنه اذا كانت الأرض هي العلاقة الفيزيائية بين الجسد والمكان حيث يلتقيان والمكان هو الأرض المتخيلة التي لن نصلها بعد ونحلم بالوصول اليها , فأن جليل القيسي لم يكتفِ بالحلم بل انطلق إلى فضاءات أرحب من سماء الحلم . وبهذا يكون قد تمكّن من إنتزاع الكلي ومن الجزئي بتخليص المعنى من المادة , بحيث يمكن استحضار الشيء من غير أن يرتبط هذا الاستحضار بشروط الوجود المادي وبشروط الزمان والمكان .




1- جمعية الاقتباسات منقولة عن مملكة الانعكاسات الضوئية, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, 1997.

2- جان بول سارتر : الخيالي , ص 13 .

3- طه باقر : مجلة عمان , عدد 72 , حزيران 2001 .

4- كولن ويلسن : المعقول والا معقول , ص 181 .

5- ستانلي فيش : هل في هذا الصف نص , ص 230 .